تفسیر سوره نساء(منتخب)

تفسير الميزان آيات 36 - 71 سوره نساء
[سورة النساء (4): الآيات 36 الي 42]
[وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبي‏ وَ الْيَتامي‏ وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبي‏ وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلي‏ هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّي بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)]
بيان‏
آيات سبع فيها حث علي الإحسان و الإنفاق في سبيل الله و وعد جميل عليه، و ذم علي تركه إما بالبخل أو بالإنفاق مراءاة للناس.
قوله تعالي: «وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» هذا هو التوحيد غير أن المراد به التوحيد العملي، و هو إتيان الأعمال الحسنة- و منها الإحسان الذي هو مورد الكلام- طلبا لمرضاة الله و ابتغاء لثواب الآخرة دون اتباع الهوي و الشرك به.
و الدليل علي ذلك أنه تعالي عقب هذا الكلام أعني قوله: وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، و علله بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً، و ذكر أنه البخيل بماله و المنفق لرئاء الناس، فهم الذين يشركون بالله و لا يعبدونه وحده، ثم قال: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا، و ظهر بذلك أن شركهم عدم إيمانهم باليوم الآخر، و قال تعالي: وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوي‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ: «- ص: 26» فبين أن الضلال باتباع الهوي- و كل شرك ضلال- إنما هو بنسيان يوم الحساب، ثم قال: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلي‏ عِلْمٍ: «الجاثية: 23» فبين أن اتباع الهوي عبادة له و شرك به.
فتبين بذلك كله أن التوحيد العملي أن يعمل الإنسان ابتغاء مثوبة الله و هو علي ذكر من يوم الحساب الذي فيه ظهور المثوبات و العقوبات، و أن الشرك في العمل أن ينسي اليوم الآخر- و لو آمن به لم ينسه- و أن يعمل عمله لا لطلب مثوبة بل لما يزينه له هواه من التعلق بالمال أو حمد الناس و نحو ذلك، فقد أشخص هذا الإنسان هواه تجاه ربه، و أشرك به.
فالمراد بعبادة الله و الإخلاص له فيها أن يكون طلبا لمرضاته، و ابتغاء لمثوبته لا لاتباع الهوي.
قوله تعالي: «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» إلي قوله: «أَيْمانُكُمْ» الظاهر أن قوله: إِحْساناً مفعول مطلق لفعل مقدر، تقديره: و أحسنوا بالوالدين إحسانا، و الإحسان يتعدي بالباء و إلي معا يقال: أحسنت به و أحسنت إليه، و قوله: وَ بِذِي الْقُرْبي‏، هو و ما بعده معطوف علي الوالدين، و ذو القربي القرابة، و قوله: وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبي‏ وَ الْجارِ الْجُنُبِ قرينة المقابلة في الوصف تعطي أن يكون المراد بالجار ذي القربي الجار القريب دارا، و بالجار الجنب- و هو الأجنبي- الجار البعيد دارا، و قد روي عن النبي(ص): تحديد الجوار بأربعين ذراعا،: و في رواية: أربعون دارا، و لعل الروايتين ناظرتان إلي الجار ذي القربي و الجار الجنب.
و قوله: و الصاحب بالجنب هو الذي يصاحبك ملازما لجنبك، و هو بمفهومه يعم مصاحب السفر من رفقة الطريق و مصاحب الحضر و المنزل و غيرهم، و قوله: و ابن السبيل هو الذي لا يعرف من حاله إلا أنه سألك سبيل كأنه ليس له من ينتسب إليه إلا السبيل فهو ابنه، و أما كونه فقيرا ذا مسكنة عادما لزاد أو راحلة فكأنه خارج من مفهوم اللفظ، و قوله: و ما ملكت أيمانكم المراد به العبيد و الإماء بقرينة عده في عداد من يحسن إليهم، و قد كثر التعبير عنهم بما ملكته الأيمان دون من ملكته.
قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» المختال التائه المتبختر المسخر لخياله، و منه الخيل للفرس لأنه يتبختر في مشيته، و الفخور كثير الفخر، و الوصفان أعني الاختيال و كثرة الفخر من لوازم التعلق بالمال و الجاه، و الإفراط في حبهما، و لذلك لم يكن الله ليحب المختال الفخور لتعلق قلبه بغيره تعالي، و ما ذكره تعالي في تفسيره بقوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلخ و قوله: وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ إلخ يبين كون الطائفتين معروضتين للخيلاء و الفخر: فالطائفة الأولي متعلقة القلب بالمال، و الثانية بالجاه و إن كان بين الجاه و المال تلازم في الجملة.
و كان من طبع الكلام أن يشتغل بذكر أعمالهما من البخل و الكتمان و غيرهما لكن بدأ بالوصفين ليدل علي السبب في عدم الحب كما لا يخفي.
قوله تعالي: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ» الآية أمرهم الناس بالبخل إنما هو بسيرتهم الفاسدة و عملهم به سواء أمروا به لفظا أو سكتوا فإن هذه الطائفة لكونهم أولي ثروة و مال يتقرب إليهم الناس و يخضعون لهم لما في طباع الناس من الطمع ففعلهم آمر و زاجر كقولهم، و أما كتمانهم ما آتاهم الله من فضله فهو تظاهرهم بظاهر الفاقد المعدم للمال لتأذيهم من سؤال الناس ما في أيديهم، و خوفهم علي أنفسهم لو منعوا و خشيتهم من توجه النفوس إلي أموالهم، و المراد بالكافرين الساترون لنعمة الله التي أنعم بها، و منه الكافر المعروف لستره علي الحق بإنكاره.
قوله تعالي: «وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ»، إلخ أي لمراءاتهم، و في الآية دلالة علي أن الرئاء في الإنفاق- أو هو مطلقا- شرك بالله كاشف عن عدم الإيمان به لاعتماد المرائي علي نفوس الناس و استحسانهم فعله، و شرك من جهة العمل لأن المرائي لا يريد بعمله ثواب الآخرة، و إنما يريد ما يرجوه من نتائج إنفاقه في الدنيا، و علي أن المرائي قرين الشيطان و ساء قرينا.
قوله تعالي: «وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا» الآية، استفهام للتأسف أو التعجب، و في الآية دلالة علي أن الاستنكاف عن الإنفاق في سبيل الله ناش من فقدان التلبس بالإيمان بالله و باليوم الآخر حقيقة و إن تلبس به ظاهرا.
و قوله: «وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً» تمهيد لما في الآية التالية من البيان، و الأمس لهذه الجملة بحسب المعني أن تكون حالا.
قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ» الآية. المثقال هو الزنة، و الذرة هو الصغير من النمل الأحمر، أو هو الواحد من الهباء المبثوث في الهواء الذي لا يكاد يري صغرا. و قوله: مِثْقالَ ذَرَّةٍ نائب مناب المفعول المطلق أي لا يظلم ظلما يعدل مثقال ذرة وزنا.
و قوله: وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً، قرئ برفع حسنة و بنصبها فعلي تقدير الرفع كان تامة، و علي تقدير النصب تقديره: و إن تكن المثقال المذكور حسنة يضاعفها، و تأنيث الضمير في قوله: إِنْ تَكُ إما من جهة تأنيث الخبر أو لكسب المثقال التأنيث بالإضافة إلي ذرة.
و السياق يفيد أن تكون الآية بمنزلة التعليل للاستفهام السابق، و التقدير: و من الأسف عليهم أن لم يؤمنوا و لم ينفقوا فإنهم لو آمنوا و أنفقوا و الله عليم بهم لم يكن الله ليظلمهم في مثقال ذرة أنفقوها بالإهمال و ترك الجزاء، و إن تك حسنة يضاعفها. و الله أعلم.
قوله تعالي: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ» الآية. قد تقدم بعض الكلام في معني الشهادة علي الأعمال في تفسير قوله تعالي: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النَّاسِ: «البقرة: 143» من الجزء الأول من هذا الكتاب، و سيجي‏ء بعض آخر في محله المناسب له.
قوله تعالي: «يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ» الآية. نسبة المعصية إلي الرسول يشهد أن المراد بها معصية أوامره(ص) الصادرة عن مقام ولايته لا معصية الله تعالي في أحكام الشريعة، و قوله: لَوْ تُسَوَّي بِهِمُ الْأَرْضُ كناية عن الموت بمعني بطلان الوجود نظير قوله تعالي: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً: «النبأ: 40».
و قوله: «وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً» ظاهر السياق أنه معطوف علي موضع قوله: يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا و فائدته الدلالة بوجه علي ما يعلل به تمنيهم الموت، و هو أنهم بارزون يومئذ لله لا يخفي عليه منهم شي‏ء لظهور حالهم عليه تعالي بحضور أعمالهم، و شهادة أعضائهم و شهادة الأنبياء و الملائكة و غيرهم عليهم، و الله من ورائهم محيط فيودون عند ذلك أن لو لم يكونوا و ليس لهم أن يكتموه تعالي حديثا مع ما يشاهدون من ظهور مساوي أعمالهم و قبائح أفعالهم.
و أما قوله تعالي: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ: «المجادلة: 18» فسيجي‏ء إن شاء الله تعالي أن ذلك إنما هو لإيجاب ملكة الكذب التي حصلوها في الدنيا لا للإخفاء و كتمان الحديث يوم لا يخفي علي الله منهم شي‏ء.
بحث روائي‏
في تفسير العياشي، في قوله تعالي: وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الآية: عن سلام الجعفي عن أبي جعفر(ع) و أبان بن تغلب عن أبي عبد الله(ع): نزلت في رسول الله(ص) و في علي(ع).
ثم قال: و روي مثل ذلك في حديث ابن جبلة. قال: قال: و روي عن النبي(ص): أنا و علي أبوا هذه الأمة.
أقول: و قال البحراني في تفسير البرهان، بعد نقل الحديث: قلت: و روي ذلك صاحب الفائق.
و روي العياشي هذا المعني عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله(ع)، و رواه ابن شهرآشوب عن أبان عن أبي جعفر(ع). و الذي تعرض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعني الذي بحثنا عنه في مبحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، إذ الأب أو الوالد هو المبدأ الإنساني لوجود الإنسان و المربي له، فمعلم الإنسان و مربيه للكمال أبوه فمثل النبي و الولي عليهما أفضل الصلاة أحق أن يكون أبا للمؤمن المهتدي به، المقتبس من أنوار علومه و معارفه من الأب الجسماني الذي لا شأن له إلا المبدئية و التربية في الجسم فالنبي و الولي أبوان، و الآيات القرآنية التي توصي الولد بوالديه تشملهما بحسب الباطن و إن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين الجسمانيين.
و في تفسير العياشي، أيضا عن أبي صالح عن أبي العباس في قول الله: وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبي‏ وَ الْجارِ الْجُنُبِ قال: الذي ليس بينك و بينه قرابة، و الصاحب بالجنب قال: الصاحب في السفر.
أقول: قوله: الذي ليس بينك، تفسير الجار ذي القربي و الجنب معا و إن أمكن رجوعه إلي الجار الجنب فقط، و قوله: الصاحب في السفر لعله من قبيل ذكر بعض المصاديق.
و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال: قال أمير المؤمنين(ع): في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم علي الأفواه فلا تكلم، و تكلمت الأيدي، و شهدت الأرجل، و أنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا.
و اعلم، أن الأخبار كثيرة من طرق أهل السنة في أن الآيات نازلة في حق اليهود، و هي و إن كان يؤيدها ما ينتهي إليه ذيل الآيات من التعرض لحال أهل الكتاب من اليهود في بخلهم و ولعهم بجمع المال و ادخاره و كذا وسوستهم للمؤمنين و ترغيبهم علي الكف عن الإنفاق في سبيل الله و تفتينهم إياهم و إخزائهم لهم، و إفساد الأمر علي رسول الله(ص) لكن الأخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظري منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الأخبار الناقلة لأسباب النزول، و لذلك تركنا نقلها علي كثرتها.
و اعلم أيضا أن الأخبار الواردة عن النبي و آله(ص) في إحسان الوالدين و ذي القربي و اليتامي و غيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حد الإحصاء علي معروفيتها و شهرتها، و هو الموجب للإغماض عن إيرادها هاهنا علي أن لكل منها وحده مواقع خاصة في القرآن، ذكر ما يخصها من الأخبار هناك أنسب.
[سورة النساء (4): آية 43]
[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكاري‏ حَتَّي تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّي‏ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضي‏ أَوْ عَلي‏ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)]
بيان‏
قد تقدم في الكلام علي قوله تعالي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ: «البقرة: 219»، أن الآيات المتعرضة لأمر الخمر خمس طوائف، و إن ضم هذه الآيات بعضها إلي بعض يفيد أن هذه الآية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا» الآية نزلت بعد قوله تعالي: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً: «النحل: 67»، و قوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ: «الأعراف: 33»، و قبل قوله تعالي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما: «البقرة: 219»، و قوله تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ: «المائدة: 90»، و هذه آخر الآيات نزولا.
و يمكن بوجه أن يتصور الترتيب علي خلاف هذا الذي ذكرناه فتكون النازلة أولا آية النحل ثم الأعراف ثم البقرة ثم النساء ثم المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصة النهي القطعي عن شرب الخمر علي خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الأعراف نهيا من غير تفسير ثم الذي في سورة البقرة نهيا باتا لكن المسلمين كانوا يتعللون في الاجتناب حتي نهوا عنها نهيا جازما في حال الصلاة في سورة النساء، ثم نهيا مطلقا في جميع الحالات في سورة المائدة و لعلك إن تدبرت في مضامين الآيات رجحت الترتيب السابق علي هذا الترتيب، و لم تجوز بعد النهي الصريح الذي في آية البقرة النهي الذي في آية النساء المختص بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة، إلا أن نقول إن النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية.
و أما وقوع الآية بين ما تقدمها و ما تأخر عنها من الآيات فهي كالمتخللة المعترضة إلا أن هاهنا احتمالا ربما صحح هذا النحو من التخلل و الاعتراض- و هو غير عزيز في القرآن- و هو جواز أن تتنزل عدة من الآيات ذات سياق واحد متصل منسجم تدريجا في خلال أيام ثم تمس الحاجة إلي نزول آية أو آيات و لما تمت الآيات النازلة علي سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخللة و ليست بأجنبية بحسب الحقيقة و إنما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهم لازم الدفع، أو مس حاجة إلي إيراده نظير قوله تعالي: [بَلِ الْإِنْسانُ عَلي‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقي‏ مَعاذِيرَهُ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ]: الآيات «القيامة: 20»، انظر إلي موضع قوله: لا تُحَرِّكْ‏ إلي قوله: «بَيانَهُ».
و علي هذا فلا حاجة إلي التكلف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها، و ارتباط ما بعدها بها، علي أن القرآن إنما نزل نجوما، و لا موجب لهذا الارتباط إلا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.
قوله تعالي: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلي قوله: «ما تَقُولُونَ» المراد بالصلاة المسجد، و الدليل عليه قوله: وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ، و المقتضي لهذا التجوز قوله حَتَّي تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إذ لو قيل: لا تقربوا المسجد و أنتم سكاري لم يستقم تعليله بقوله: «حَتَّي تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» أو أفاد التعليل معني آخر غير مقصود مع أن المقصود إفادة أنكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة و الكبرياء و تخاطبون رب العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا و تبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون، و هذا المعني كما تري- يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكن الصلاة لما كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة- علي السنة- و كان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال و سبك الكلام علي ما تري.
و علي هذا فقوله: حَتَّي تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر بحيث يبقي سكرها إلي حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون و ليس غاية للحكم بمعني أن لا تقربوا إلي أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس.
قوله تعالي: «وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» إلي آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ: «المائدة: 6».
بحث روائي‏
في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضل عن أبي الحسن(ع) في قول الله: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ- وَ أَنْتُمْ سُكاري‏ حَتَّي تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» قال: هذا قبل أن تحرم الخمر.
أقول: ينبغي أن تحمل الرواية علي أن المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها، و إلا فهي مخالفة للكتاب فإن آية الأعراف تحرم الخمر بعنوان أنه إثم صريحا، و آية البقرة تصرح بأن في الخمر إثما كبيرا فقد حرمت الخمر في مكة قبل الهجرة لكون سورة الأعراف مكية و لم يختلف أحد في أن هذه الآية (آية النساء) مدنية، و مثل هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة تصرح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر، و يمكن أن تكون الرواية ناظرة إلي كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان.
و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر(ع) قال: لا تقم إلي الصلاة متكاسلا و لا متناعسا- و لا متثاقلا فإنها من خلل النفاق- فإن الله نهي المؤمنين أن يقوموا إلي الصلاة- و هم سكاري يعني من النوم.
أقول: قوله: فإنها من خلل النفاق استفاد(ع) ذلك من قوله تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فالمتمرد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن، و قوله: يعني من النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي و يحتمل أن يكون من كلامه(ع) و يكون تفسيرا للآية من قبيل بطن القرآن، و يمكن أن يكون من الظهر.
و قد وردت روايات أخر في تفسيره بالنوم رواها العياشي في تفسيره عن الحلبي في روايتين، و الكليني في الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن الصادق(ع)، و بإسناده عن زرارة عن الباقر(ع)، و روي هذا المعني أيضا البخاري في صحيحة عن أنس عن رسول الله(ص).
[سورة النساء (4): الآيات 44 الي 58]
[أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفي‏ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفي‏ بِاللَّهِ نَصِيراً (45)
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلي‏ أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَري‏ إِثْماً عَظِيماً (48)
أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَي اللَّهِ الْكَذِبَ وَ كَفي‏ بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)
أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدي‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51)
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلي‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفي‏ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلي‏ أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
بيان‏
آيات متعرضة لحال أهل الكتاب، و تفصيل لمظالمهم و خياناتهم في دين الله، و أوضح ما تنطبق علي اليهود، و هي ذات سياق واحد متصل، و الآية الأخيرة: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلي‏ أَهْلِها» الآية، و إن ذكر بعضهم أنها مكية، و استثناها في آيتين من سورة النساء المدنية، و هي هذه الآية، و قوله تعالي: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ الآية: «النساء: 176» علي ما في المجمع لكن الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات، و كذا آية الاستفتاء فإنها في الإرث، و قد شرع في المدينة.
قوله تعالي: «أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ» الآية، قد تقدم في الكلام علي الآيات (36 42) أنها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات، و قد سمعت القول في نزول تلك الآيات في حق اليهود.
و بالجملة يلوح من هذه الآيات أن اليهود كانوا يلقون إلي المؤمنين المودة و يظهرون لهم النصح فيفتنونهم بذلك، و يأمرونهم بالبخل و الإمساك عن الإنفاق ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح، و جدهم في التقدم و التعالي، و هذا لازم كون تلك الآيات نازلة في حق اليهود أو في حق من كان يسار اليهود و يصادقهم ثم تنحرف عن الحق بتحريفهم، و يميل إلي حيث يميلونه فيبخل ثم يأمر بالبخل.
و هذا هو الذي يستفاد من قوله: وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ إلي آخر الآية.
فمعني الآيتين- و الله أعلم- أن ما نبينه لكم تصديق ما بيناه لكم من حال الممسك عن الإنفاق في سبيل الله بالاختيال و الفخر و البخل و الرئاء إنك تري اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لأنفسهم يشترون الضلالة و يختارونها علي الهدي، و يريدون أن تضلوا السبيل فإنهم و إن لقوكم ببشر الوجه، و ظهروا لكم في زي الصلاح، و اتصلوا بكم اتصال الأولياء الناصرين فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم، و استصوبته قلوبكم لكنهم ما يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، و الله أعلم منكم بأعدائكم، و هم أعداؤكم فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلي أقوالهم المزوقة و إلقاءاتهم المزخرفة و أنتم تقدرون أنهم أولياؤكم و أنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلي ولايتهم الكاذبة، و نصرتهم المرجوة و كفي بالله وليا، و كفي بالله نصيرا، فأي حاجة مع ولايته و نصرته إلي ولايتهم و نصرتهم.
قوله تعالي: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» إلي قوله: «فِي الدِّينِ» «من» في قوله: مِنَ الَّذِينَ، بيانيه، و هو بيان لقوله في الآية السابقة: الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ، أو لقوله: بِأَعْدائِكُمْ، و ربما قيل: إن قوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا خبر لمبتدإ محذوف و هو الموصوف المحذوف لقوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، و التقدير: من الذين هادوا قوم يحرفون، أو من الذين هادوا من يحرفون، قالوا: و حذف الموصوف شائع كقول ذي الرمة:
فظلوا و منهم دمعه سابق له و آخر يشني دمعة العين بالمهل.
يريد: و منهم قوم دمعه أو و منهم من دمعه و قد وصف الله تعالي هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه، و ذلك إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم و التأخير و الإسقاط و الزيادة كما ينسب إلي التوراة الموجودة، و إما بتفسير ما ورد عن موسي(ع) في التوراة و عن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعني الحق كما أولوا ما ورد في رسول الله(ص) من بشارات التوراة، و من قبل أولوا ما ورد في المسيح(ع) من البشارة، و قالوا: إن الموعود لم يجي‏ء بعد، و هم ينتظرون قدومه إلي اليوم.
و من الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالي بقوله: وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا، فتكون هذه الجمل معطوفة علي قوله: يُحَرِّفُونَ، و يكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير المحل الذي ينبغي أن يوضع فيه، فقول القائل: سمعنا من حقه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا لا أن يقال: سمعنا و عصينا، أو يوضع: سمعنا موضع التهكم و الاستهزاء، و كذا قول القائل: اسمع ينبغي أن يقال فيه: اسمع أسمعك الله لا أن يقال: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أي لا أسمعك الله و راعنا، و هو يفيد في لغة اليهود معني اسمع غير مسمع.
و قوله: «لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ» أصل اللي الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحق، و الإزراء و الإهانة في صور التأدب و الاحترام فإن المؤمنين كانوا يخاطبون رسول الله(ص) حين ما كانوا يكلمونه بقولهم: راعنا يا رسول الله، و معناه: أنظرنا و اسمع منا حتي نوفي غرضنا من كلامنا، فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول الله(ص) بقولهم: راعنا و هم يريدون به ما عندهم من المعني المستهجن غير الحري بمقامه(ص) فذموا به في هذه الآية، و هو قوله تعالي: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» ثم فسره بقوله: «وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ» ثم عطف عليه كعطف التفسير قوله: «وَ راعِنا» ثم ذكر أن هذا الفعال المذموم منهم لي بالألسن، و طعن في الدين فقال: «لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ» و المصدران في موضع الحال و التقدير: لاوين بألسنتهم، و طاعنين في الدين.
قوله تعالي: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ» كون هذا القول منهم و هو مشتمل علي أدب الدين، و الخضوع للحق خيرا و أقوم مما قالوه (مع اشتماله علي اللي و الطعن المذمومين و لا خير فيه و لا قوام) مبني علي مقايسة الأثر الحق الذي في هذا الكلام الحق علي ما يظنونه من الأثر في كلامهم و إن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة، فالمقايسة بين الأثر الحق و بين الأثر المظنون حقا، و المعني: أنهم لو قالوا: سمعنا و أطعنا، لكان فيه من الخير و القوام أكثر مما يقدرون في أنفسهم لهذا اللي و الطعن فالكلام يجري مجري قوله تعالي: وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ الجمعة: 11.
قوله تعالي: «وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» تأييس للسامعين من أن تقول اليهود سمعنا و أطعنا فإنه كلمة إيمان و هؤلاء ملعونون لا يوفقون للإيمان، و لذلك قيل: لو أنهم قالوا، الدال علي التمني المشعر بالاستحالة.
و الظاهر أن الباء في قوله: «بِكُفْرِهِمْ» للسببية دون الآية، فإن الكفر يمكن أن يزاح بالإيمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الإيمان منعا قاطعا لكنهم لما كفروا (و سيشرح الله تعالي في آخر السورة حال كفرهم) لعنهم الله بسبب ذلك لعنا ألزم الكفر عليهم إلزاما لا يؤمنون بذلك إلا قليلا فافهم ذلك.
و أما قوله: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فقد قيل: إن «قَلِيلًا» حال، و التقدير: إلا و هم قليل أي لا يؤمنون إلا في حال هم قليل، و ربما قيل: إن «قَلِيلًا» صفة لموصوف محذوف، و التقدير: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، و هذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أن اتصاف الإيمان بالقلة إنما هو من قبيل الوصف بحال المتعلق أي إيمانا المؤمن به قليل.
و أما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد به قليل الإيمان في مقابل كاملة، و ذكر أن المعني: فلا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه، و لا يزكي نفسه، و لا يرقي عقله فقد أخطأ، فإن الإيمان إنما يتصف بالمستقر و المستودع، و الكامل و الناقص في درجات و مراتب مختلفة، و أما القلة و تقابلها الكثرة فلا يتصف بهما، و خاصة في مثل القرآن الذي هو أبلغ الكلام.
علي أن المراد بالإيمان المذكور في الآية إما حقيقة الإيمان القلبي في مقابل النفاق أو صورة الإيمان التي ربما يطلق عليها الإسلام، و اعتباره علي أي معني من معانيه، و الاعتناء به في الإسلام مما لا ريب فيه، و الآيات القرآنية ناصة فيه، قال تعالي: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقي‏ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً: «النساء: 94»، مع أن الذي يستثني الله تعالي منه قوله: وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، كان يكفي فيه أقل درجات الإيمان أو الإسلام الظاهري بحفظهم الظاهر بقولهم: سمعنا و أطعنا كسائر المسلمين.
و الذي أوقعه في هذا الخطإ ما توهمه أن لعنه تعالي إياهم بكفرهم لا يجوز أن يتخلف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدر أن القلة وصف الإيمان و هي ما لا يعتد به من الإيمان حتي يستقيم قوله: «لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ»، و قد غفل عن أن هذه الخطابات و ما تشتمل عليه من صفات الذم و المؤاخذات و التوبيخات كل ذلك متوجهة إلي المجتمعات من حيث الاجتماع، فالذي لحقه اللعن و الغضب و المؤاخذات العامة الأخري إنما هو المجتمع اليهودي من حيث إنه مجتمع مكون فلا يؤمنون و لا يسعدون و لا يفلحون، و هو كذلك إلي هذا اليوم و هم علي ذلك إلي يوم القيامة.
و أما الاستثناء فإنما هو بالنسبة إلي الأفراد، و خروج بعض الأفراد من الحكم المحتوم علي المجتمع ليس نقضا لذلك الحكم، و المحوج إلي هذا الاستثناء أن الأفراد بوجه هم المجتمع فقوله: «فَلا يُؤْمِنُونَ» حيث نفي فيه الإيمان عن الأفراد- و إن كان ذلك نفيا عنهم من حيث جهة الاجتماع- و كان يمكن فيه أن يتوهم أن الحكم شامل لكل واحد واحد منهم بحيث لا يتخلص منه أحد استثني فقيل: إِلَّا قَلِيلًا فالآية تجري مجري قوله تعالي: وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ:- النساء: 66.
قوله تعالي: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا» إلخ الطمس محو أثر الشي‏ء، و الوجه ما يستقبلك من الشي‏ء و يظهر منه، و هو من الإنسان الجانب المقدم الظاهر من الرأس و ما يستقبلك منه، و يستعمل في الأمور المعنوية كما يستعمل في الأمور الحسية، و الأدبار جمع دبر بضمتين و هو القفا، و المراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله و مسخهم، قال تعالي: وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ:- الأعراف: 163، و قال تعالي: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها:- البقرة: 66.
و قد كانت الآيات السابقة- كما عرفت- متعرضة لحال اليهود أو لحال طائفة من اليهود، و انجر القول إلي أنهم بإزاء ما خانوا الله و رسوله، و أفسدوا صالح دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم، و سلبهم التوفيق للإيمان إلا قليلا فعم الخطاب لجميع أهل الكتاب- علي ما يفيده قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ- و دعاهم إلي الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم، و أوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا و استكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه.
و ذلك ما ذكره بقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلي‏ أَدْبارِها، فطمس الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدها الحيوية مما فيه سعادة الإنسان المترقبة و المرجوة لكن لا المحو الذي يوجب فناء الوجوه و زوالها و بطلان آثارها بل محوا يوجب ارتداد تلك الوجوه علي أدبارها فهي تقصد مقاصدها علي الفطرة التي فطر عليها لكن لما كانت منصوبة إلي الأقفية و مردودة علي الأدبار لا تقصد إلا ما خلفته وراءها، و لا تمشي إليه إلا القهقري.
و هذا الإنسان- و هو بالطبع و الفطرة متوجه نحو ما يراه خيرا و سعادة لنفسه- كلما توجه إلي ما يراه خيرا لنفسه، و صلاحا لدينه أو لدنياه لم ينل إلا شرا و فسادا، و كلما بالغ في التقدم زاد في التأخر، و ليس يفلح أبدا.
و أما لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ علي ما تقدم من آيات أصحاب السبت التي تخبر عن مسخهم قردة.
و علي هذا فلفظة «أَوْ» في قوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ، علي ظاهرها من إفادة الترديد، و الفرق بين الوعيدين أن الأول أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها، و الثاني أعني اللعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الإنسانية إلي خلقة حيوانية كالقردة.
فهؤلاء إن تمردوا عن الامتثال- و سوف يتمردون علي ما تفيده خاتمة الآية- كان لهم إحدي سخطتين:
إما طمس الوجوه، و أما اللعن كلعن أصحاب السبت
لكن الآية تدل علي أن هذه السخطة لا تعمهم جميعهم حيث قال. «وُجُوهاً»
فأتي بالجمع المنكر، و لو كان المراد هو الجميع لم ينكر، و لتنكير الوجوه و عدم تعيينه نكتة أخري هي أن المقام لما كان مقام الإيعاد و التهديد، و هو إيعاد للجماعة بشر لا يحلق إلا ببعضهم كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الإنذار و التخويف لأن وصفهم علي إبهامه يقبل الانطباق علي كل واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب البئيس، و هذه الصناعة شائعة في اللسان في مقام التهديد و التخويف.

هیچ نظری هنوز ثبت نشده است
نظر دهید

آدرس پست الکترونیک شما در این سایت آشکار نخواهد شد.

URL شما نمایش داده خواهد شد.
بدعالی

درخواست بد!

پارامتر های درخواست شما نامعتبر است.

اگر این خطایی که شما دریافت کردید به وسیله کلیک کردن روی یک لینک در کنار این سایت به وجود آمده، لطفا آن را به عنوان یک لینک بد به مدیر گزارش نمایید.

برگشت به صفحه اول

Enable debugging to get additional information about this error.